عزيزي القارئ.. لو ذهبتَ إلى ولاية كاروليْنا الشمالية بالولاياتِ المتحدةِ فاسألْ عن مدينةِ "فايَتْفيل" (Fayetteville)، ولا يَفتْكَ أن تصليَ بمسجد بها يسمى "مسجد عمر بن سعيد" المتأسس سنة 1991، فهو منسوب إلى أحد أبناء وطنك؛ ألا وهو المناضل الموريتاني الفوتي عمر بن سعيد المتوفى هناك رحمه الله تعالى سنة 1864.
كلما قرأتُ تاريخَ ذلكَ الرجلِ البطلِ الشجاعِ أشعرُ كم هو جديرٌ بنا، نحن الموريتانيين، أن نفخرَ بمنطقةِ فُوتَا، وأن نقرأ في تاريخِها، ونقفَ على معالمها، ونتعرفَ على رجالاتها الأفذاذِ. فوتَا أو "فوتا تُورُو": منطقة تقع على ضفتيْ نهر السنغال؛ جزءٌ منها موريتانيٌّ على الضفة اليمنى، ويقابله جزؤها السنغالي على الضفة اليسرى. يقع الجزء الموريتاني من هذه المنطقة في ولايتي البراكنة وگورگول، كما أنَّ لها امتداداتٍ غربا في ولاية الترارزة وشرقا في ولاية گيديماغا، وهي امتدادات تتسعُ أو تضيقُ بحسب الأزمنةِ والنفوذِ. ومن أبرز مدنها وأماكنها: كيهيدي، وماتام، وبوغي، ومقاما، وبابابي، واندَادْبَنّي.. إلخ.
ابن سعيد الفوتي الموريتاني.. المسلم الصامد
ولد عمر بن سعيد سنة 1770 في منطقة "فوتا تورو" بموريتانيا لأبيه سعيد وأمه أم هانئ، وذلك في عهد الإمامِ سليمانْ بَالْ مؤسس دولة الأئمة بفوتا. كان عمرُ ابنا لعائلة غنية من أرستقراطية "هَلَيْبَه" البولارية (Halaybé)، عاش في موريتانيا 37 عاما، دَرَسَ خلالها العلوم الدينية واللغة العربية بفوتا ومارس التجارة. وقد عاصر عمر بن سعيد فترة حكم الألمامي عبد القادر الفوتي وتحالفه مع البراكنة في صراعهم ضد الترارزة، فضلا عن حروبه المريرة مع مملكتي: كارطة البمبارية بغرب مالي وزعيمها موديبو، وبوندو التكرورية بأعالي نهر السنغال وزعيمها الألمامي أحمد عيساتا.
ما إن حلت سنة 1807 حتى جاء ذلك اليومُ الكئيبُ الذي غزت فيه كتائبُ مملكة كارطة قرى فوتا وأعملوا فيها السيف قتلا وتنكيلا، فأرملوا النساءَ وشردوا الساكنةَ وألقوا القبضَ على الرجال بمن فيهم عمر بن سعيد، فبيع في تلك الفتنة المظلمة لتجارِ النخاسةِ الأوروبيين فعَمِيتْ أخباره ورَمَتْهُ الأقدارُ أسيرًا على الشاطئ الأطلسي الغربيِّ ليباع عبدا بولاية كاروليْنا الجنوبية، ثم يباع ثانية، بعد هروبه من سيده الأول وتعرضه للسجن، في كارولينا الشمالية حيثُ اشتراه "جيمس أون" وهو أحدُ كبار جنرالات كاروليْنا الشمالية، وأخوه "جون أون" حاكم الولاية في منتصف القرن التاسع عشر.
ظل عمر، المشهور في منفاه بلقب "مورو" و"العم عمروه"، أسيرَ الرق، وقد توفي سنة 1864 عن أربع وتسعين عاما دون أن يترك عقبا، ودفن على ربوة في منطقة "بلادن" (Bladen) بولاية كارولَيْنَا الشمالية، وشواهد قبره وما عليه من الطين الأحمر المتصدع ماثلة للعيان. وقد بنت سلطات مدينة فايتفيل مسجدا باسمه سنة 1991 تخليدا لذكراه واعترافا بمكانته الثقافية والاجتماعية؛ فهذا الفوتي الموريتاني هو الوحيد من الأمريكيين الأفارقة المستعبَدين الذي ترك تراثا مكتوبا باللغة العربية.
ليس هناك ما يؤكد اعتناق عمر للمسيحية كما تزعُم بعض المواقع والدراسات الأمريكية مستدلةً من بين أمور أخرى بنص له مخطوط كتب فيه ما يسميه المسيحيون "الصلاة الربانية"، والواقع أن هذا لا يثبت مسيحيته خصوصا وأنه كتب فوق هذه "الصلاة" عبارة: "وهكذا تصلون أنتم"، كما وضع نجمة خماسية أسفل الوثيقة ولم يضع صليبا؛ وكلها قرائن تدل على تمسكه بإسلامه. والراجح أنه ظل مسلما حتى وفاته كما تدل على ذلك مضامين سيرته الذاتية التي كتب نصَّها باللغة العربية، كما أنه كتب وهو في منفاه العبودي كذلك بعض سور القرآن وخصوصا سورة الملك وسورة النصر؛ وفي اختياره لهاتين السورتين بالذات أكثر من دِلالة.
وفضلا عن زعم بعض الأمريكيين مسيحية عمر بن سعيد الفوتي الموريتاني فإن بعض الباحثين السنغاليين وغيرهم حريصون على جعله سنغاليا، وهو أمر غير دقيق فالقرائن والدلائل تشير إلى أنه كان من أهل الضفة اليمنى لفوتا، وأنه كان بفوتا عند مصرع المامي عبد القادر ونهايته المأساوية. وقد ظل المامي عبد القادر وقتا طويلا لاجئا في محصر الترارزة كما هو مشهور. وعمر بن سعيد فوتي موريتاني وليس سنغاليا كما يدعي البعض؛ وكثيرا ما كان تاريخنا عرضة لادّعاءٍ سواء جاء ذلك الادعاءُ من الجنوب أو من الشمال.
سيرةُ عمر بن سعيد نص مخطوط جميل يقع في خمس عشرة صفحة؛ ذكر في بدايتها سببُ تأليف سيرته الذاتية؛ فهو تلبية لطلب السيد "هَنْتَه Hunter"، كما أورد فيها بعضَ أحداث حياته وكيفية أسره وترحيله نحو أمريكا وبيعه وما لاقاه من عنف وامتهانٍ هناك. كما قيد فيها تأملاته، وحرص على إظهار تمسكه الراسخ بالدين الإسلامي وانفتاحِه على الآخر من مسيحي وغيره، ونسخ فيها آيات قرآنية كثيرة. والسيد هنته عضو "جمعية الإعمار الأمريكية" التي كانت تشجع ملاك العبيد على تحريرِ أرقائهِم في القرن التاسع عشر.
وقد ظلت الآثار والمخطوطات العربية التي تركها ابن سعيد الفوتي بمكتبة ويلسون في جامعة مدينة "تشابل هيل" بولاية كارولينا الشمالية، وبعضها موجود بمكتب الأرشيف والتاريخ بنفس الولاية. كما تناول عدد من الباحثين الأمريكيين حياة هذا الموريتاني الفوتي الغنية والثرية. وفي مارس 1996 بيعت مخطوطة سيرة عمر بن سعيد الذاتية في مزاد علني بأزيد من 20 ألفَ دولارٍ.
ومن المفارقات أن سنة وفاة عمر بن سعيد هي نفسها سنة وفاة سَمِيِّهِ وابنِ منطقتِه المجاهدِ العالمِ الصوفيِّ الحاج عمر تال الفوتي المتوفى بمنطقة ماسنة بشمال مالي. كان الرجلان فوتييْن وكانا يحملان نفسَ الاسمِ، أحدهما مات غربا بأمريكا تحت نَيْر الرق والثاني مات اختناقا بالدخان في جرف بمرتفع جبلي يسمى "دَگمبري" بمنطقة ماسنة في 12 فبراير 1864م بعد أن حاصره أعداؤه من إيفلان ماسنة والتوارگ وغيرهم؛ فأشعلوا عليه النار بعد أن تأكدوا من اصطحابه ذخيرة كثيرة من دقيق البارود.
لكنَّ عمرَ بنَ سعيدٍ لم يمت بأمريكا حتى أثبتَ لمسترِقيه أنه مسلم ذو نفس أبية؛ ظل متمسكا بشخصيتهِ الفوتيةِ البولاريةِ القويةِ، ومحافظا على دينه الإسلامي الحنيف. وكذلك الحاج عمر الفوتي لم يمت شهيدا حتى نشرَ الإسلام وفتحَ الممالك وقهرَ الدول في غرب إفريقيا؛ مؤسسا في منتصف القرن التاسع عشر امبراطورية إسلامية كبرى شملت أجزاء من موريتانيا ومالي والسنغال والنيجر.
منطقة فوتا.. موعد مع التاريخ والجغرافيا
تعاقبت على منطقة فوتا، ذات السهول الخصبةِ والأوديةِ المترعةِ وقطعانِ الحيوانِ الكثيرةِ، دولٌ قوية منها مملكة أسرة تَنْگَلّه الفلانية التي أسسها كولِي تنگله (Koli Tenguella)، ودولة الأئمة التي أسسها العالم الفقيه سليمانْ بَالْ على أنقاض مملكة تنگلة أو مملكة "أولاد تنگلة" كما تقول بعض التواريخ المحلية.
يلقب قائد دولة الإئمة في فوتا بالألمامي أو المامي وكلاهما تصحيف للإمام. وكانت دولة الأئمة بفوتا تعمل وفق نظام سياسي وأخلاقي خاص؛ فلها مجلس شورى يتألف من تسعة أعضاء ينتخبون من عائلات فوتا العريقة التي لها تقاليد في الحكم وتدبير الشأن العام. ولا بد أن يكون الألمامي على قدر من الثقافة والدين والأخلاق ويكون قد تجاوز حدَّ الأربعين. والألمامي لا يورث زعامته لأبنائه بل إن مجلس الشورى هو من يسند الزعامة لمن يرى فيه أهليتَها.
ويذكر أن دولةَ الأئمة قد تأثرتْ في تأسيسها بحركة الإمام ناصر الدين في منطقة الترارزة وبتجربة شرببَّه. وكان العالم الفذ الشيخ محمد المامي بن البخاري الباركي قد أخذ اسمه من أحد أئمة فوتا، وكان الشيخ محمد المامي يصف باديةَ موريتانيا وخلوَها في القديم من نظام سياسي جامع بأنها في فترة من الأحكام "بين العَمالتين الإسماعيلية في الشمال والبوصيابية في الجنوب"؛ والإسماعيلية نسبة إلى مولاي إسماعيل جد ملوك المغرب، والبوصيابية نسبة إلى منطقة بوصيا (Bosséa) وهي إحدي أقاليم فوتا الوسطى.
كان المامي عبد القادر أو "آلمامي عبد القادري" من أبرز أمراء "فوتا تورو"، وقد تولى بعد وفاة "المامي سليمان بالْ" زعامةَ دولة الأئمة من 1779م حتى 1806م. وتميز حكمه بالتمسك الشديد بالشريعة الإسلامية كما أبعد خطر منافسيه على الضفة اليمني من قبائل الدينيانكي (Déniankés). وقد توسعت دولة فوتا تورو في عهده فشملت مناطق عديدة من السنغال ومالي مثل "الوالو" وجزءٍ من مناطق "فيرلو" و"كايور" و"جيولوف" في السنغال فضلا عن منطقتي "گالام" وبامبوك" بمالي. وعرفت علاقات المامي عبد القادر توترا مع بعض الإمارات الموريتانية وخاصة إمارة الترارزة؛ فقد ساند المامي عبد القادر البراكنةَ ضد الترارزة، وقُتِلَ في بعض تلك المعارك أميرُ الترارزة. وقد مدح العالمُ الموريتانيُّ حرمه بنُ عبد الجليل العلوي المامي عبد القادر بشعر جميل:
قد فُقتَ كلَّ ملوكِ الأرض قاطبـةً ۞ وفقت في العلمِ والعِرفان كلَّ ولِي
| |
0 التعليقات:
إرسال تعليق